لَستُ أنَا مَن يَبكِي !
كُنتُ طِفلاً صَغِيرَاً حِينمَا دَخلَت وَالِدَتِي و قَالت مَنْ يَبكِي ؟
كُنتُ فِي زَاوِيَة غُرفَتِي الصّغِيرَة ..
بَعدمَا رَأيْتُ صَفحَةً مِنْ كِتَاب أخِي الكَبِير ..
بَعدَ أنْ رَأيتُ صُورَةً فِيهَا يَأكُلُ الهِرُّ فِي عُصفورٍ صَغِيرٍ ..
و صَورَةٌ فِيهَا يَأكُلُ الأسَد فِي غَزَالٍ لَديهِ أطفَال!
بَعدَ أنْ رَأيتُ هَذهِ الصّوَر .. بِلا شُعُورٍ , دَفعَنِي هَذا المَشهَد إلى تَسللي و بِـ سُرعَة إلى غُرفَة أخِي الآخر الذي يَعشَق المُوسِيقى ..
و أخذتُ إسطوَانَة مُوسِيقى مَرسُومَاً عَليهَا فتَاة تَصرُخ .. و مَكتوبَاً عَليهاً Sad !!
لَم أنسَى تِلكَ الحُروف .. كَانَ شَكلها مُخِيفَاً جِدّاً ..
و بَدَأت عَمليَّة إسْتِرخَائِي عَلى ألحانٍ مُوجِعَة ؛ بـِ رِفقَة تأمّلِي فِي الصُّوَر ..
و كُنتُ أبكِي بـِلا دُموعٍ أو صَوتٍ ..
كُنتُ أشهَقُ مِنْ إسْتِحضَارِ هَذهِ المَواقِف السّريعَـة ..
و لَكِن بَعدَ أنْ دَخلَت وَالِدَتِي , أخذتُ أصرخ وَ أقُولُ لَستُ أنَا مَنْ يَبكِي !
هِي فَزِعَت مِن خَوفِي .. تَقول : لا بَأس ..
و أنَا لا أزَالُ أصرخ .. لَستُ أنَا مَنْ يَبكِي يَا أُمّي ..
و هَذا الحَال .. يُسَافِرُ مِن طِفلٍ يَخَافُ مِن أمّـه إلى قلبِ أخٍ و إبنِ عمٍّ لا يُبَالِي بِمَا يَحدُث ..
وَالدِي لَمْ يَكتَرِث .. كَان مَشغُولاً فِي الإقتِصَاد .. و إدَارَة الأعمَال ..
و أنَا أُحَارِبُ أفكَارِي الدّخِيلَة , بـِ رِفقَة وَالِدَتِي ..
كَانَت طُفُولَتِي هَادِئَة , و لَم تَلبَث بـِ الهُدوءِ حَتى إنقضّ فِي ( حَارتنا ) بَاحِثي درَاسات مَندُوبِي دَولَة أوربيّة و أخرى أمريكيّـة ..
و بَنوا لَهُم كَنيسَة .. مُقَابِل المَسجِد الذي كُنتُ أُصَلي فيهِ مَع أخِي الكَبِير ..
و مَدرسَةٍ لـِ التّعالِيم المَسيحيّـة بـِ جَانِب مَدرسَتِنَا ..
و تَمضِي الأيّــام قِدمَاً نَحوِ المَشِيبِ و أنا لا أستَطِيع نِسيَان مَنظرُ الهِرُّ الأسْوَد , و الأسَد الكَبِيرِ !
عُصفُورِي مَا زَالَ عَلى قَيدِ الحيَاة ..
و وَالدَتِي مَا زَالَت تُصَلِي بَعدَ أنْ ينَامُ الجَميع إلى أذانِ الفَجرِ ..
و أبِي مَا زَال يَكدَحُ و يُخَطِّطُ لـِ بِنَاء مشَارِيع أفضَل ..
و أخِي الكَبِير .. لا يَزَال يَشترِي كُتباً كَثِيرَة , و يَقرَأ بِلا توَقُّف ..
و أخِي الأخَر .. لَم يزَل يَتفنّن بـِ شِرَاء آلات مُوسِيقيّة و إسطوَانات غربيّـة لـِ تَعلُّم المُوسِيقى ..
أمّا أنَا .. إلتَقِيت بـِ فَتَاة شَقرَاء صَغِيرَة .. أكبُرُهَا بِـ عَامَين ..
و أَصبَحت صَدِيقَتِي .. و بَدَأت تُعَلِّمُنِي لُغَتهم .. و أرَدتُ أنْ أُعَلِمُهَا لُغَتنا فَـ رَفضَت .. تَقول نَحنُ لا نَحتاج لـِ لُغَتِكُم ... أعتَقِد أنّها مُحِقّة !
كنتُ أُقَابِلُهَا سِرّاً .. لأنّ أخِي الثّالث مُلتَزِم [ مُطوّع ] !
و كَانَ يَنهَرنِي و يَقُول لا تتحدّث مَع تِلكَ الكَافِرَة .. و كَانَ يُهَدِّدُنِي ..
أتذكّر أنّ أخِي هَذا كَانَ مَعهُ مُسَدّسَينِ ..
و رآني مَرّة و أنَا أنظُر إليهِ و هُوَ يُلمّع فِي مُسدّسَه ..
و أتذكّر حِينمَا ظغَطَ بِـ يَدهِ الكَبِيرَة عَلى رَأسِي و قَال لا تُخبِر أمُّكَ بـِ مَا رَأيت ..
كَانَ يُرهِبُنِي .. و كُنتُ أكتِمُ سِرّه خَوفَاً مِنه ..
أمّا أخِي الفنّان .. ذُو الحِسّ المُوسِيقي ..
إشترَى لِي فِي عِيدِ مِيلادِي آلَة كمَان .. وَ قَال لِي سَـ أتّفِق مَع أبُو مَحمُود يُعَلِّمُكَ العَزف عَلى الكمَان ..
و أخِي المُثقّف .. إشتَرَى لِي كِتَاب صَغِير و قَلَم جَافّ , عَلى الرّغم أنّي لا أُحَبّذُ الأقلام الجَافّة حِين طُفُولَتِي ..
و أخِي قويّ البُنيَة .. إشْتَرَى لِي [ غُترَة بَيضَاء .. و سُوَاك أرَاك ] ..
كنتُ لا أعرِف سِوى المَعجُون و الفِرشَاة .. فـ وَالدِي يَقُول المَعجُون أفضَل مِن السّواكَ ..
وقَال أخِي المُلتَزِم .. إلقِ بِـ مَعجُونك فِي السّلّـة , و مِنَ اليَومٍ فَـ صَاعِدَاً إستَخدِم هَذا السّواك ..
أومَأتُ بـِ رَاسِي مُوافِقَاً .. حَتى لا يَضرِبُنِي ..
صَدِيقَتِي .. إلتَقَت بِي بَعدَ أنْ ذَابَت شُموع لَيلَة عِيد مِيلادِي .. عِند بَيتنا ..
و أعطَتنِي كُتبٌ كَثِيرَة .. تَقول أنها قَد سَرَقتها مِنْ مَكتبَة أبيهَا ..
و قَالتْ لِي لا بُدّ أنْ تَقرَأهَا و تَستَوعِب مَا فِيهَا .. رُبّمَا نتزوّج أنَا و أَنت .. !!
كُنتُ لا أعرِف مَعنىً لِـ الزّوَاج .. لا أنَا و لا هِيَ ..
لَكِن قَالَ لهَا أبيهَا .. أنَّ دَولَتهُم سَـ تتزوّج دَولَتُنَا , و سَـ يَزِفُّ هَذا الحَفل جَمِيع الدّوَل المُجَاوِرَة لِـ دَولَتِنَا ..
فَرِحتُ كَثِيرَاً .. إنِّي مُتشوّق لـِ هَذا الزّوَاج !
أردَفت بِـ حَديثهَا .. لا تُخبِر أحَد , قلتُ لِمَاذا ؟
قَالت لأنّ أستَاذِي و أبِي قالوا لِي لا تُخبرِين أحدَاً بِـ هَذا !
..
أخِي القَويّ , الآن فِي السّجن .
و أخِي المُثقّف , يُرَاوِد عِيَادة طِبّ نَفسِي , و هُو يُلازِم عُزلَته .
أخِي المُوسِيقيّ .. إنتحَــــــر ..
أمّي .. مَازَالَت تُصَلي و تَبكِي ..
أمّـا أبِي .. تَزوّج مِن إمرَأة شَقرَاء و هَاجَرَ معهَا .
و أنَا .. مَازِلتُ فِي السّعُوديّـة !
الأحد أغسطس 09, 2009 11:58 am